**
هل ما زال لدى هؤلاء المحبطين طاقة يستعرضونها في حرب التحرش والإغواء؟ لا عجب أنها فورة تظهر لعدة أيام في السنة، أثناء التجوال في منتصف الليل بدا الجميع قد استنزف طاقته صباحا، أظن أن سائق التاكسي يعلم جيدا أن وضعه مثير للشفقة، السؤال الذي أردنا تبادله : انت بتعمل ايه دلوقت في الشارع؟ لم ينطق أحدنا بالسؤال، حاول هو تكرار كلمات أغنية أم كلثوم المذاعة عبر كاسيت السيارة.. هذه ليلتي، في شارع مصر والسودان ظهر الحق الذي لمحته على أطراف منطقتنا..

**
حدد لي ساعة واحدة هي مدة اللقاء غير العاجل، كان عليه أن يسافر غدا هروبا من القاهرة، لم يكن هناك أي معنى لنزولي من المنزل، بل قاومت رغبة في النوم، تركته في لقاء انتهى بعد نصف ساعة تقريبا، واتبعت الأسباب إلى أرض الآباء والأجداد. كان المشي أوفر، في الحقيقة كنت أستهلك الوقت في محاولة محو النصف ساعة الفائتة من الذاكرة. انطلقت مع قدماي. يقابلني رجل ذو بنطلون ممزق وفانلة (حمالات)ـ يطلب مني جنيهان تحت زعم أنه تعرض لحادث سرقة، على يميني انفجار يصاحبه وهج من إحدى الحواري المجاورة.. إنهم يحتفلون في دير الملاك، في الجهة المقابلة من شارع بورسعيد لافتة رائعة.. مرحبا بكم في حي الشرابية، تصاحبها صورة السيد الرئيس.. ما أعظم الوفاء !ـ
**
من الشارع الرئيسي إلى حواري تأخذني إلى حواري، وأنا كما أنا حيث اتبع قواعد التسكع الأولى، الناس في المقهى والشارع، تمتاز الشرابية والزاوية بأنها تجمَع عنصري الأمة في وئام و سلام، حيث يتجاور الصعايدة والمنايفة في المحلات والمقاهي، في إحدى الحواري أتغاضى عن نظرات أهلها للغريب الوافد بعد منتصف الليل، وجود صاحبات الجلاليب السود يعطي مبررا لبقاء الأطفال في الشارع، أسمع بوضوح أصوات الحلل في الحارة الضيقة التي تكفي لمروري، تذكرت صديقة.. كنت أتحدث معها قبلها بساعات عن أن هذه المدينة ممتعة في كل جزء منها، هي كفيلة بإدهاش الرصين وإشعال حيرة الحليم. أراهن أنها لن تستطع معي صبرا على مثل تلك الجولات الفوضوية.
**
قرب شارع ترعة الجلاد في الشرابية اختراعات جديدة لإشاعة روح البهجة والفرح، منطات ظريفة يتقافز عليها الأطفال وتحيط بها شبكة، لأول مرة أراها داخل الأحياء الشعبية، أما الأسوأ فكان رش السبراي الشهير الذي كان يستخدمه سمير غانم في فوازير فطوطة.. (!) رجل أربعيني يجري وسط الأطفال، كان هناك مبرر لإغراقي بالسبراي.. لم أستبعد بعدها أن أواجه بابتسامة وعبارة : كل سنة وأنت طيب، فقبلها بقليل كان ابن الجزار قد وقف يسدد الصواريخ في المكان

**
البعض يتابع مبارة فريق مصري مع فريق آخر جزائري، مرة أخرى أعيد قراءة المكان.. الشرابية التي كانت أرضا زراعية، هنا شارع جنينة الورد أقابله بعد نفق أسفل قضبان القطار، أمر من عزبة الورد باتجاه عزبة بلال، لا أحد هنا يتذكر جريمة قتل الورد وبناء تلك البيوت العجيبة، الحي أبقى من الميت، بعض البيوت ذات جدران خشبية، وهناك خنادق علقت عليها لافتات كتب أعلاها : الملك لله وحده. منذ أن دخلت الشرابية أقابل رجالا ونساء هربوا من منازلهم الضيقة وجلسوا على صخور أمام المنزل هروبا من الحر والملل، كان الملل يقتل الجميع، احدهم سمعته قبل عبوري لشريط القطار يلعن المنطقة التي يسكنها. على الأقل أنا لم ألعن المنطقة التي أسكنها، ولم أعيب في الصديق الذي قابلته لدقائق.
**
بعد أن عبرت السكة الحديدية للمرة الثانية إلى شارع أحمد حلمي، كان الموعد مع أرض الأباء والأجداد، بحثت عن منزلي القديم فاكتشفت أنه بعيد، اتجهت إلى الترعة البولاقية، اكتشفت أني أمام الهدف مباشرة، منزل جدتي الذي قضيت فيه بعضا من طفولتي، أنا أمام المقهى، الهاربون من منازلهم ما زالوا هناك، كان عليّ أن ألقي السلام والتحية. كانت الساعة بعد الواحدة. أعتقد أنها لو كانت معي لندمت على هذا التسكع الغريب